

حيث اشار الاستاذ في بداية محاضرته الى معنى كلمة النفس وجمعها انفس ونفوس وتدل على المعاني الاتية :-
1- الروح :- فقولك خرجت نفس فلان اي روحه.
2- الروع :- فقولك في نفس فلان ان يفعل كذا اي في روعه.
3- جملة الشيء وحقيقته :- فقولك قتل فلان نفسه واهلك نفسه اي اوقع الهلاك بذاته كلها وحقيقتها.

فاذا كان الاصطلاح اللغوي لكلمة النفس يقترب من كلمة التنفس فأن حقيقة الكائن الحي تقوم وتستمر على التنفس وهذا واضح عند الانسان والحيوان والنبات.
النفس مبدأ الحياة والقوة المحركة سواء اكان ذلك في الانسان ام الحيوان ام النبات.
النفس اذا اساس نمو وحركة الكائن الحي ، اذا سلبت النفس من الكائن الحي فقد الحياة لان الجسم آلة يحيا ويحس ويتحرك بالنفس التي هي مكملة له وان من اتحادهما يكون الكائن الحي.
النفس في النبات تقتصر على الغذاء ، فهي غذائية وان كثيرا من النباتات تتحرك حركة محدودة مثل زهرة الشمس التي تدور مع محور قرص الشمس ، كما ان بعض النباتات التي تطبق على الحشرات التي تمسها او تمتص رحيقها ، النفس على كل حال مبدأ الحياة للنبات.

النفس في الحيوان مبدأ الحياة والاحساس والحركة ، الكائن الحيواني يحيا ، يحس ، ويتحرك بالنفس غير ان جسم الحيوان كتلة مظلمة ثقيلة.
النفس الانسانية تتميز فضلا عن التغذية والاحساس والحركة ، انها جوهر الحياة ، فأن النفس في الانسان اساس الفكر والتمييز.
النفس طاقة تكمن في جبلة الجسد صعب على العلماء والحكماء معرفة كنهها او التوصل الى سر اسرارها. لغز يتلبس كل انسان لكن لم يدرك اي انسان سر هذا اللغز المحير للألباب.
النفس كائن حي متحرك ، لا يتوقف ولا يعرف الهدوء والسكون.
النفس جوهر الانسان الذي هو بحقيقة النفس موجود ، النفس هي مبدأ الحياة وعلة الحركة ومن دونها لا وجود للحركة ولا للحياة. النفس دائمة الحركة لان ذراتها سهلة بسيطة قادرة على الاتجاه في جميع الجهات وهذا سر ديمومة حركتها وخلودها.

ان اعماق النفس اشبه بالبحر المحيط الذي لا تحده حدود ، عمق بعيد الغور ذو ابعاد كثيرة ، ليس من السهل الاحاطة بها او التوغل الى عمق اعماقها.
النفس هي مبدأ الاخلاق. ان الحب والكره يكونان عن طريق النفس ، عن طريق الحب يكون التوافق والالتئام. وعن طريق الكره يكون التباعد والخصام ، الجسم ينهمك في اللذة ويفرط فيها ولكن قوة النفس توقفه عند حد معين.
الانسان هذا الذي خلق من نطفة هو اذا جزء من هذا الكون الواسع بما فيه من ماء وتراب ونار وهواء ، الماء يكون القسم الاعظم من كيانه المادي ، والتراب فيه عنصر اساس والنار لها الديمومة والهواء جوهر الحياة يقابل كل هذا كون النفس هي الجزء الالهي التي ترتفع بالإنسان الى ملكوت السماء.
وهنا لابد ان نؤكد على حقيقة مفادها ان فلسفة سقراط في النفس تتلخص في تلك الجملة التي وجدها مكتوبة في معبد دلفي والتي اتخذها شعارا له ( اعرف نفسك بنفسك ). وبالتالي فهو يرى :-
1- ان النفس جوهر روحي قائم بذاته وانها جوهر الانسان الحقيقي. وان البدن ليس الا آلة لها وان في الموت خلاصها وتحريرها.
2- ان حقيقة الانسان هي نفسه فمعرفة الانسان لنفسه ليس معناها معرفته لجسمه بل ذلك العنصر الالهي الذي يوجد في اعماق وجوده.
3- النفس تعني العقل الذي هو في نظر سقراط ظل الله والنفس عنده جوهر مستقل عن البدن.
النفس عند افلاطون جوهر بسيط غير مركب ، قديمة ازلية خالدة لا تفنى ولا تتغير لأنها تحيا بعالم المثل وانها مبدأ الحركة في الجسم.

النفس عند ارسطو ، كمال اول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة وهي شرف وكمال للبدن ، على كل حال ينطلق الفلاسفة في تفسيرهم وتوضيحهم للنفس الانسانية من منطلقين مختلفين :-
1- المنطلق الاول ، ديني اسلامي بحت نابع من القران والاحاديث النبوية والاخبار المروية عن الصحابة والائمة السلف وعن كبار المتصوفة عند المسلمين والكتب المقدسة واخبار الانبياء والرسل عند الاديان الاخرى.
2- المنطلق الثاني ، هو منطلق فلسفي يتابع فيه الفلاسفة من مسلمين ويونانيين تحليلاتهم وتفسيراتهم للنفس الانسانية.
وترمي الفلسفة من وراء تحليلاتها النفسية الى اكتشاف الدوافع والنوازع والميول العاطفية الكامنة وراء سلوك الانسان وافعاله المختلفة ، كذلك تحاول الفلسفة التمييز بين الدوافع الغريزية والمكتسبة لكي يكون الانسان على علم تام بحقيقة النفس الانسانية ومعرفة حقيقة افعالها المحمودة والمذمومة. اي ان الفلسفة تريد اكتشاف فضيلة النفس الانسانية بغية تربيتها وتنميتها مع اكتشاف رذيلتها من اجل تحجيمعا والحد من طغيانها والذهاب لمعالجتها عبر التحليلات الفلسفية والمفاهيم الدينية اي المزج بين علم النفس والاخلاق.
وتطرق المحاضر الى تفسير الفلاسفة للنفس الانسانية ، سواء كان الفلاسفة من اليونان او من فلاسفة العرب والاسلام ، وكما نعلم ان اغلب فلاسفة الاسلام يتبعون تقسيم افلاطون وارسطو للنفس الاسلامية فقسم منهم يتبع تقسيم افلاطون الثلاثي للنفس الانسانية وهو كالاتي :-
1- عاقلة.
2- غضبية.
3- شهوانية.
ومنهم من يتبع تقسيمات ارسطو وهي ثلاثية ايضا :-
1- ناطقة.
2- حيوانية.
3- نباتية
ونجد من الفلاسفة من يحاول التوفيق بين المنهج الافلاطوني والمنهج الارسطي في معالجة اخلاق النفس الفاضلة والمرذولة.
و بين المحاضر ان الفيلسوف ابو علي الحسين بن عبد الله ( ابن سينا ) 980 – 1037م ، و ( اخوان الصفا وخلان الوفا ) وهم مجموعة من المثقفين والمفكرين اتفقوا ان يعيشوا متحابين متصاحبين متصافين ، اتخذوا من البصرة مقرا لهم في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري ، ولهم 52 رسالة ومنهم ابو سليمان محمد المقدسي ، ابو الحسن علي بن هارون الزنجاني ، ابو الحسن الصوفي ، محمد بن احمد المهرجاني ( النهر جوني ). كنموذج فلسفي ونتأمل معا في نظرتهم للنفس الانسانية وقوتهم وبراعتهم في استخدام الرمز للتعبير عن قساوة وظلم النفس الانسانية للجسد.
بينما ابن سينا نظر للنفس الانسانية عن طريق عدة مؤلفات ومخطوطات عن النفس الانسانية ولعل من اهمها ( القصيدة العينية ) وهي ما يقارب الواحد وعشرين بيتا والتي يصور فيها ابن سينا هبوط النفس وحلولها في الجسد وهيامها وحنينها للعودة الى منبعها الاول :-
هبطت اليك من المحل الارفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف وهي التي سفرت ولم تتبرقع
القصيدة هنا تشرح النظرية الافلاطونية في النفس التي ملخصها ان النفوس تكون قبل ان تتصل بالأجسام في الملأ الاعلى ثم ترتكب هنالك ذنبا لتسقط الى الارض وتتصل بجسد مادي جزاء لها على خطيئتها تلك.
يرى ابن سينا هنا ان النفس هبطت من العالم السماوي عالم الحق الاول وقد اشار لها بالحمامة ( الورقاء ) لأنها اذكى الطيور وشديدة الشوق والحنين ، هذه النفس محجوبة عنا في حقيقتها وماهيتها ولكنها سافرة وظاهرة لنا بصفاتها وافعالها في واضحة لمن يريد التعرف عليها فهي تتألم وتفرح وتحزن لكننا لا يمكن ان نراها لأنها سر الهي اودعه الله فينا ، وهي عندما اتصلت بالبدن على كره منها تألفت معه واستأنست به ، ولعلها نسيت عهدها في العالم العقلي.

هذه النفس تسيطر عليها اللذات الجسمية وتطاوع البدن لتلبية مطالبه ، ولكن الزمن يحرمه من هذه اللذات التي عشقتها ، انها تسد على نفسها طريق النجاة من العذاب والعقاب لأنها هامت بالبدن ، وتعلقت بالذات الدنيا ونسيت عالمها الاصلي ، وغربت عن هذا العالم وعادت الى منبعها كأنها البــرق – حياة النفس في البدن – الذي تألق في العالم العقلي ثم انطوى وكأنه لم يكن ولله الامر اولا واخرا. اي ان اتصال النفس بالبدن مهما كان مديدا لا يقاس بزمان العالم من بدايته الى نهايته فحياة هذه الدنيا ومضت ولمعت وتلألأت ثم انطفأت بسرعة البرق.
ولم يكتف ابن سينا بعرض رأي افلاطون في قصيدته وانما وجه نقدا لرأي افلاطون في النفس ، يتبين في الابيات الستة الاخيرة ، حيث عد رأي افلاطون بعيدا عن الصواب لان الغاية التي تهبط من اجلها النفس الى الارض لا قيمة لها ، فالنفس لا يمكنها ان تعرف من احوال العالم حتى اذا قضت فيه عمر انسان كامل ، ولو بلغ ستين او سبعين سنة او اكثر او اقل ، واذا كانت النفس تهبط لتتعلم وتعرف فكيف نعلل وفاة بعض الناس قبل ان يولدوا او بعد ولادتهم بقليل كل هذه اوهام واخيلة جميلة تعلق بها افلاطون ثم وجدها ابن سينا جوفاء لا لباب فيها ، اما رأي ابن سينا الايجابي في النفس فهو رأي مادي لاعتقاده ان النفوس متعددة.
اما اخوان الصفا وخلان الوفا فنجد عندهم في رسائل الجسمانيات الطبيعيات حكاية يتضح فيها اسلوب الادب الرمزي والفلسفي وهي ( حكاية المقعد والاعمى ) ، والتي تتحدث عن رجلين من بلاد الهند احدهما اعمى والاخر مقعد اصطحبا في طريق فعبرا بستانا ، فمالا اليه ، فرأهما صاحب البستان ، فرحمهما وادخلهما الى بستانه بشرط ان يتناولا من ثماره بحسب الحاجة وان لا يولعا بالثمار فيفسداها ، فقالوا له انهم لا يستطيعون الافساد في البستان لما فيهم من الزمانة ( العاهة ) لان احدهما اعمى والاخر مقعد.
فأمر صاحب البستان الناطور ان يهتم بهما ويعطيهم ما يحتاجونه من ثمار البستان ، وفعلا اهتم بهما ناطور البستان وعندما اينعت ثمار البستان ، قال المقعد للأعمى انت صحيح الرجلين وانا صحيح العينين ، ارى ثمار طيبة ، لن يعطينا منها الناطور فما رأيك ان تحملني على كتفك لأطوف بك البستان ونأكل من الثمار الطيبة واطعمك منها واذا لم تصل يداي الى بعض الثمر اسقطه بعصاك فتنتشله من الارض ويكون عملنا هذا بغياب الناطور ، وفعلا قام بإفساد ثمار البستان عند ذهاب الناطور الى السوق ، ولما شاهد الناطور الفساد الذي دب فجأة في البستان سألهما عن ذلك ، وهل سمع الاعمى ، وشاهد المقعد دخول الغرباء الى البستان ، فانكرا ذلك بحكم عاهتهما ، ومرة اخرى كررا فعلهما الاول عندها شك بهما الناطور ، وادعى لهما ، بأنه ذاهب الى السوق لكنه اختبأ بالقرب من البستان وشاهد فعلتهما فذكرهما بإحسان صاحب البستان اليهما وانهما لا يجوز ان يفعلا ذلك فقلا له بانهم لن يكررا ذلك وطلبوا منه ان لا يخبر صاحب البستان بذلك فقبل الناطور ولكنه عندما غاب مرة اخرى ورجع رأى اثار فسادهما ورغم نصحه المتكرر لهم الا انهم لم يلتزموا بما نهاهم عنه لذلك اخبر الناطور صاحب البستان بما فعل المقعد والاعمى فقال صاحب البستان كنت اقدر ان المقعد يركب عنق الاعمى ويطوفان في البستان ويفسدان علي المعيشة ، فقال الناطور هكذا فعلا ونهيتهما ولم ينتهيا عندها قال صاحب البستان انهما يستحقان العقوبة وامر عبيده واعوانه بمعاقبة المقعد والاعمى بإخراجهما من البستان الى البرية لكي يأكلهما الوحش او يهلكهما الجوع والعطش ففعل بهما ذلك واخرجا من البستان كما فعل بآدم وحواء لما ذاقا الشجرة.
اما ماهي المعاني من هذه الرموز ؟ لقد شبهوا المقعد بالنفس ، والاعمى بالجسد حيث ينقاد الجسد لأوامر النفس فهي تامره وتقوده ، وشبهوا البستان بدار الدنيا ، وصاحب البستان هو الله تعالى ، والناطور بالعقل والثمار تعني طيبات الدنيا وشهواتها. فالعقل هو الذي يرشد الانسان ويأمر بالعدل وينهى عن الفحشاء والمنكر وهو الذي ينصح النفس ويدلها على الخير والسلامة في الدين والدنيا فإذا لم تقبل النفس منه النصيحة تكون نهايتهما بالإماتة والخسران وفي كل شيء ، لان السيئات ستحيط بها وتخسر اخرتها لانغماسها في الشهوات والابتعاد عن مصلحتها حتى تأتيها جنود الله وتخرجا من دار الدنيا بالكره والاجبار جزاء على ما اكتسبته من سوء ادبها وذلك هو الخسران.